رفع الراس.. في فن ركوب الميكروباص
ستركب ستركب، أيا كانت ظروفك أو سنك أو مؤهلك أو وظيفتك، سنجد لك السيارة المناسبة التي ستنقلك إلى حيث تريد، في أسرع وقت، وبأقل تكاليف، ودون "بهدلة".
إذا كنت من معتادي الركوب والتنقل الكثير بين وسائل المواصلات أبشِر؛ معنا يتحول حلمك إلى حقيقة، سيارة سريعة، كرسي مريح، شباك مفتوح، تعامل آمن، ووصول مؤكد.
أما إذا كنت من الفئة الأغنى بحيث لا تتحرك إلا بسيارتك، فأبشر أيضا فربما تتعطل السيارة ذات يوم ولا تجد تاكسيًا فتضطر إلى الركوب من أجل جلب ميكانيكيٍّ عتيد يسكن في منطقة نائية، أو من أجل ملء جركن بالبنزين من بنزينة على بعد مسافة لا يستهان بها.
أما إذا كنت من الموظفين الكادحين البائسين الظانين بالله ظن الخير، فأبشر مثل زميليك، لماذا تستبعد على الله يا أخي وخزائنه مملوءة لا تنفد أن يرزقك بعمل إضافي بعض الظهر، فيفتح عليك وتتحول ما بين غمضة عين انتباهتها إلى أحد راكبي الميكروباصات الذين تسمع عنهم، وتراهم أحيانا جالسين في هناءة وراحة بال، وأنت محشور في أتوبيس هيئة النقل العام الأحمر الذي لم يشأ له المولى عز وجل أن يتميز مع باقي الأسطول الذي كتب عليه من الخارج: احترس.. الخدمة مميزة.
في تعريفه ووصفه وسماته وعلاماته وما يتعلق به
اعلم أعزك الله أن "الميكروباص" لفظة أعجمية، استوردناها في الوقت ذاته الذي استوردنا فيه من بلاد الخواجات المركبة المسماة بهذا الاسم، وهي لفظة تتكون من مقطعين، الأول: "ميكرو" ومعناها: صغير جدا، تذكر معي الميكروب، والميكروفيلم، والميكروجيب، ألا يجمعها كلها الصغر المتناهي، وعدم الوضوح غالبا؟ لهذا فأنت حين تكون في موقف مزدحم وتأتي السيارة المرغوب فيها يتدافع عليها الخلق من كل حدب وصوب، فلا تكاد تراها فضلا عن حجز مقعد من مقاعدها الأربعة عشر، حتى لو كان "قلابا"!
أما المقطع الثاني فهو: "باص"، والباص هو "الأتوبيس"، وهي مفردة أعجمية أخرى تعني: حافلة الركاب، وهي "حافلة" لفرط امتلائها بالبشر كعلبة كبريت لم تفتح بعد، وبضم المقطعين "ميكرو- باص" إلى بعضهما يكون المعنى: الحافلة الصغيرة، فتصبح لهذه السيارة مميزات الحافلة وعيوبها، بجانب اختصار الحجم إلى أقل ما يمكن.
والميكروباصات كما هو معلوم - لدى الكافة - أنواع: أفضلها على الإطلاق التويوتا، أو "عروس الطريق" كما يطلق عليها بعض السائقين، تليها النيسان، ثم الكيا، ثم تتساوى الماركات بعد هذا لدى أي راكب حصيف، لكن يعيبها جميعا أن مقاعدها ضيقة، لا حظّ فيها لطويل القامة ممتد الساقين، أما القصير فيجلس مرتاحا كأنه وسط أسرته، وداخل بيته.
اللون لا يهم، لكنها في الغالب بيضاء النصفِ الأعلى زرقاء السفلي، حسب اشتراطات إدارة المرور في وقت من الأوقات، بها من أعلى لافتة قديمة غالبا مكتوب عليها: خط السير الذي بالطبع لا يتم الالتزام به، وهو ما يعرف بـ"السرفيس"، وإذا خرج "السر" عن خط سيره لم يعد سرفيسا، وكأن مسئولي المرور حين قرروا تطبيق هذا النظام سألوا السائقين: فيكم من يحفظ "السر"؟ فأجاب السائقون: في "فيس"، ثم خانوا العهد، وشطحوا في أركان المدينة يبغون أجرة مضاعفة، فيُقطِّعون الطريق إربًا إربًا، كل "إربة" بثمن، فيدفع ركاب الخطوط الطوالي الأجرة مضروبة في ثلاثة أو أربعة، فلا نامت أعين السائقين.
في كيفية العثور عليه واستيقافه والمهارات اللازمة لهذا:
"كل المواقف مخادعة"، اجعل من هذه الجملة شعارا للمرحلة، فلا يليق بك وأنت راكب محترف أن تكون واقفا بداخل الموقف، في حين أن السيارات قد جاءت بالخارج واجتمع عليها الركاب فملئوها، ثم استدار السائق راجعا، وأنت مازلت تنظر إلى الساعة كل قليل ولا تدري شيئا عما يحدث.
حجز الميكروباص يا أخانا يبدأ قبل الموقف بمحطة كاملة أحيانا، اسحب نفسك مع عدد من الركاب، واسبق إلى مسافة طويلة، وحين يراكم السائق جماعة سيفرح ويقف، لأنه لا يريد دخول الموقف حيث يدفع "معلومًا" لأرباب السوابق والبلطجية يطلقون عليه فيما بينهم "كارتة"، وسبب التسمية - والله أعلم - هو أن من لا يدفع يتم "كَرتُهُ" على المسافة الفاصلة بين الرأس والظهر، والتي يطلق عليها اصطلاحا: القفا؛ حتى يكون عبرة لأمثاله من المارقين.
أنت الآن واقف أمام الباب الجرار المقدس مع جموع الواقفين، انتبه فالتحدي صعب، ورجوعك مهزوم الخاطر مكسور الوجدان غير لائق بالمرة فالسيارة بها أربع عشرة كرسيا، لو فاز بها أربع عشرة راكبا دونك، فعليك معاقبة نفسك بالذهاب إلى حيث تريد سيرا مهما تكن المسافة، فلا معنى لأن يكون كل هذا العدد
أفضل منك إلا أنك مواطن غير صميم لا تستحق العيش في هذا البلد، ابحث لك من هذه اللحظة على من يهربك إلى إيطاليا أو إسبانيا، حيث تنقصهم القوة والمتانة، ويركبون هناك دون تدافع.
قبل أن تصعد اعلم جيدا أن لكل موقع داخل السيارة عيوب ستعاني منها طوال الطريق، الكرسيين الأماميين مثلا، أكثر عرضة للخطر، فضلا عن أن الداخلي منهما ضيق ومرتفع،
ويخبط السائق كل قليل ساق الجالس بجواره حين يريد أن يمسك بالفتيس حتى يغير السرعة.
الكراسي التالية، عيبها كالتالي: إذا أراد الشخص المزنوق بجوار الشباك من الداخل النزول، فإن الطريقة المثلى هي أن ينحرف الشخص الجالس على الطرف من الجهة الأخرى ويدلدل رجليه للخارج، بينما يستدير الأوسط بجسده ناحية الخارج، ويسحب نفسه داخلا وراء الشخص النازل الذي يكون قد قام بالفعل، هذه الحركة ستتسبب في أن يرفع رجليه لضيق المكان فيخبط بوز حذائه المتسخ في مؤخرة الجالس على الطرف، ثم يرجع بحركة لاإرادية فيخبط كتفه في مؤخرة الشخص النازل الذي سيزعق فيه السائق:
- ما تخلص يا أستاذ.
النصيحة الواجبة هنا: لا تركب بجوار الشباك، ولا في المنتصف، ولا على الحرف إلا إذا كنت ترتدي بنطلونا غامقا مقاوما لأبواز الأحذية المتسخة!
القلاب عيوبه معروفة، أبرزها: "ماتريحش أوي يا أستاذ".
أما الكنبة الأخيرة، فيسمونها مؤخرة السيارة (باستعمال اللفظ السوقي بدلا من كلمة المؤخرة المهذبة نوعا)، لها عيبان بارزان
الأول: الشخص الرابع الذي يدفعه التباع بينكم رغم أن مصممي السيارة أقسموا بأيمانهم على أنه لا يتسع إلا لثلاثة فقط،
أما العيب الثاني: أن كل المطبات التي تمر عليها السيارة تشعر بها في جميع أنحاء جسدك، وإذا جاء مطب عال أخذه السائق على حين غرة، تجد نفسك أنت وزملاءك في الكرسي قد ارتفعتم في الهواء، واصطدمت رءوسكم بالسقف، ثم هويتم مرة أخرى كيفما اتفق،
ليبدأ الزعيق: "إيه يا اسطى هو انت محمّل اشولة بطاطس".. "بالراحة يا عم عشان معانا واحدة حامل".
المكان الأفضل على الإطلاق الذي لن تستطيع الوصول إليه غالبا، هو الكرسي الداخلي قبل الكنبة الأخيرة، واسع ومرتفع، وبجواره شباك مفتوح، أمامه شباك مفتوح، اجلس واسترح، تستطيع أن تنام قليلا بشرط أن تخبر المجاور لك بمكان نزولك حتى يوقظك.
في آداب التعامل مع السائق والتبّاع والألفاظ المناسبة لمخاطبتهما والنزول في المكان المناسب:
كن نبيها وأنت تشير إلى السائق، اجعل جسمك في منتصف طريق السيارة تماما حتى يضطر إلى التوقف، تخلَّ عن "تناكتك" بدءا من هذه اللحظة حتى تصل إلى مكانك المختار بسلامة الله، اصطنع المسكنة وأنت تشير، كأنك ستبيت في الشارع إن لم يتكرم عليك ويقف.
حين يقف لا تبادره بالمكان الذي ترغب أنت فيه، بل اسأله بكل ما يمكنك من تهذيب:
- حضرتك رايح فين بإذن الله يا هندسة؟
لا تبتئس إذا تجاهلك ولم يرد عليك، كرر سؤالك أكثر من مرة حتى يرد، ولكن بطريقة غير مملة؛ لأنه قادر لو أصابته خنقة منك أن يقول لتابعه الأمين:
- اقفل الباب يا بني.
ثم يواصل، موجها كلامه لجموع الركاب:
- العربية مش طالعة يا أفندية.
وقتها ستواجه ثورة الجماهير التي ستتهمك بـ"عكننة" مزاج السائق مما تسبب في تراجعه عن قرار توصيلهم.
احترام السائق من احترام المرء لآدميته، وكل هذه "الألاطة" التي تنتاب السائقين، لها تبرير فني واضح جدا، فما الحياة إلا بر وبحر وجو، سائق وسيلة المواصلات الجوية (الطائرات) هو الكابتن أو الطيار، وهو في أعلى السبع طبقات الاجتماعية، قبل الأستك مباشرة، له صلاحيات ومميزات ومكانة كما لو كان هو الذي يقود البلاد إلى المستقبل، يجاوره في نفس الطبقة تقريبا قائد وسيلة المواصلات البحرية، يكفي أنه اسمه "قبطان"، وهو اسم له تاريخ طويل في أفلام الرسوم المتحركة على الأقل، فلماذا إذن لا يحظى قائد وسيلة النقل البرية بنفس تقدير زميليه؟ ولماذا يضعه المجتمع في الطبقة المقابلة من الناحية الأخرى الملامسة للأرض؟
قم للسائق وفه التبجيلا.. كاد السائق أن يكون شيئا ذا أهمية في المجتمع لكن الظروف السيئة لم تحالفه.
إذا أردت صنع علاقة طيبة معه منذ اللحظة الأولى فتجنب كلمة: يا أسطى، ناده كما يحب،
قل: يا برنس، يا نجم، يا ذوق، يا غالي، يا ريس، يا زعيم، يا حبيبنا، يا هندزة، يا باشمهندز، (لاحظ إبدال السين زايا فكلاهما من حروف الصفير).
لا تقف أبدا مع راكب ضده في أي حوار، حتى لو كان حول الطقس ودرجة الحرارة، فأنت قد وضعت روحك يلعب بين أصابعه يلعب بها كيف يشاء، وإذا كنت حريصا على الوصول محافظًا على ما تبقى لك من آدمية لم تتنتهك، فلا تقل له أبدا:
- وطّي الكاسيت شوية.
ولا:
- غيّر الشريط.
أما عن "التبّاع" فهو غالبا ساخط على الحياة، أوقعه حظه العاثر في مهنة جمع الأجرة، والإلحاح على الزبائن من أجل الركوب في غير أوقات الذروة، لم يتعلم صنعة أخرى تنفعه فامتهن هذه المهنة التي لا تحتاج إلى أي مهارات، سوى حنجرة خشبية قادرة على إصدار أصوات لا قبل لباقي الآدميين بها، سيحاول هذا الكائن الميكروباصي استفزازك بشتى الطرق الممكنة، بزيادة الأجرة، وبـ" ادخل رابع ورا يا أستاذ"، وبالشخط فيك بمجرد أن تُخرج حتى ولو خمسة جنيهات صحيحة، وبنهرك وإعطائك درسا في الأخلاق إذا أردت أن تستبدل الجنيه الممزق الذي خرج من الخدمة منذ فترة، والذي دسه لك وسط الباقي حتى لا تراه.
حافظ على هدوئك، لأنك لن تأخذ معه حقا ولا باطلا، ولأنه في آخر اليوم سيجلس مع زملائه تباعي السيارات الأخرى، ليسرد كل منهم أمجاده في سرقة جزء من الإيراد، وعدد الأفندية المحترمين الذين مد يده عليهم أو شتمهم أو أضحك باقي الركاب عليهم على الأقل.
لا بد أن تشعره بقوتك منذ اللحظة الأولى، كشر تماما، حاول ألا تتكلم معه من الأساس، إذا خاطبك تجاهله، ولا ترد إلا في المرة الثانية أو الثالثة، لا تناده إلا بـ: "ياحبيبي"، بما فيها من استهانة واضحة، بعد كل هذه احرص على أن تخبره بمكان نزولك قبلها بمسافة طويلة، والأفضل أن تتعامل مع السائق مباشرة، لأنه لو عجز عن التصرف معك طوال الطريق، سينتظر لحظة نزولك حتى ينتقم منك، وينزلك في مكان بعيد عن الذي تريده.
في حمد الله والثناء عليه بعد الوصول بالسلامة:
وصلت؟ لا تفرح كثيرا يا أخي، فهذه ليست المرة الأخيرة، أطال الله بقاءك، ستعيش عمرا مديدا مليئا بالميكروباصات، ستقابل سائقين وتباعين وركابا بعدد أيام شقائك، ستهرول وتزاحم وتقفز وتساوم في الأجرة من أجل توفير ربع الجنيه الذي يريدون سرقته منك، ستتضايق حين يخبطك راكب شقيق بكوعه في وجهك دون أن يقصد، وستنفعل حين يدوس راكب آخر بحذائه على حذائك الذي لمّعته حالا، لكن حين يحدث موقف مضحك في السيارة ستشارك الجميع الضحك من قلبك، وحين يستوقف أمين شرطة السائق ليأخذ منه عشرة جنيهات ستتعاطف معه، وتدعو له وأنت نازل في النهاية: ربنا يستر طريقك، وستفرح جدا حين تجد ميكروباصا واقفا في الموقف ليس به غيرك، ستتنقل بين الكراسي حتى يأتي راكب آخر يشاركك الترقب وانتظار أن تكتمل السيارة حتى تتوكلون على الله إلى مصالحكم.
ما الحياة - يا أخي - إلا ميكروباص كبير.
ستركب ستركب، أيا كانت ظروفك أو سنك أو مؤهلك أو وظيفتك، سنجد لك السيارة المناسبة التي ستنقلك إلى حيث تريد، في أسرع وقت، وبأقل تكاليف، ودون "بهدلة".
إذا كنت من معتادي الركوب والتنقل الكثير بين وسائل المواصلات أبشِر؛ معنا يتحول حلمك إلى حقيقة، سيارة سريعة، كرسي مريح، شباك مفتوح، تعامل آمن، ووصول مؤكد.
أما إذا كنت من الفئة الأغنى بحيث لا تتحرك إلا بسيارتك، فأبشر أيضا فربما تتعطل السيارة ذات يوم ولا تجد تاكسيًا فتضطر إلى الركوب من أجل جلب ميكانيكيٍّ عتيد يسكن في منطقة نائية، أو من أجل ملء جركن بالبنزين من بنزينة على بعد مسافة لا يستهان بها.
أما إذا كنت من الموظفين الكادحين البائسين الظانين بالله ظن الخير، فأبشر مثل زميليك، لماذا تستبعد على الله يا أخي وخزائنه مملوءة لا تنفد أن يرزقك بعمل إضافي بعض الظهر، فيفتح عليك وتتحول ما بين غمضة عين انتباهتها إلى أحد راكبي الميكروباصات الذين تسمع عنهم، وتراهم أحيانا جالسين في هناءة وراحة بال، وأنت محشور في أتوبيس هيئة النقل العام الأحمر الذي لم يشأ له المولى عز وجل أن يتميز مع باقي الأسطول الذي كتب عليه من الخارج: احترس.. الخدمة مميزة.
في تعريفه ووصفه وسماته وعلاماته وما يتعلق به
اعلم أعزك الله أن "الميكروباص" لفظة أعجمية، استوردناها في الوقت ذاته الذي استوردنا فيه من بلاد الخواجات المركبة المسماة بهذا الاسم، وهي لفظة تتكون من مقطعين، الأول: "ميكرو" ومعناها: صغير جدا، تذكر معي الميكروب، والميكروفيلم، والميكروجيب، ألا يجمعها كلها الصغر المتناهي، وعدم الوضوح غالبا؟ لهذا فأنت حين تكون في موقف مزدحم وتأتي السيارة المرغوب فيها يتدافع عليها الخلق من كل حدب وصوب، فلا تكاد تراها فضلا عن حجز مقعد من مقاعدها الأربعة عشر، حتى لو كان "قلابا"!
أما المقطع الثاني فهو: "باص"، والباص هو "الأتوبيس"، وهي مفردة أعجمية أخرى تعني: حافلة الركاب، وهي "حافلة" لفرط امتلائها بالبشر كعلبة كبريت لم تفتح بعد، وبضم المقطعين "ميكرو- باص" إلى بعضهما يكون المعنى: الحافلة الصغيرة، فتصبح لهذه السيارة مميزات الحافلة وعيوبها، بجانب اختصار الحجم إلى أقل ما يمكن.
والميكروباصات كما هو معلوم - لدى الكافة - أنواع: أفضلها على الإطلاق التويوتا، أو "عروس الطريق" كما يطلق عليها بعض السائقين، تليها النيسان، ثم الكيا، ثم تتساوى الماركات بعد هذا لدى أي راكب حصيف، لكن يعيبها جميعا أن مقاعدها ضيقة، لا حظّ فيها لطويل القامة ممتد الساقين، أما القصير فيجلس مرتاحا كأنه وسط أسرته، وداخل بيته.
اللون لا يهم، لكنها في الغالب بيضاء النصفِ الأعلى زرقاء السفلي، حسب اشتراطات إدارة المرور في وقت من الأوقات، بها من أعلى لافتة قديمة غالبا مكتوب عليها: خط السير الذي بالطبع لا يتم الالتزام به، وهو ما يعرف بـ"السرفيس"، وإذا خرج "السر" عن خط سيره لم يعد سرفيسا، وكأن مسئولي المرور حين قرروا تطبيق هذا النظام سألوا السائقين: فيكم من يحفظ "السر"؟ فأجاب السائقون: في "فيس"، ثم خانوا العهد، وشطحوا في أركان المدينة يبغون أجرة مضاعفة، فيُقطِّعون الطريق إربًا إربًا، كل "إربة" بثمن، فيدفع ركاب الخطوط الطوالي الأجرة مضروبة في ثلاثة أو أربعة، فلا نامت أعين السائقين.
في كيفية العثور عليه واستيقافه والمهارات اللازمة لهذا:
"كل المواقف مخادعة"، اجعل من هذه الجملة شعارا للمرحلة، فلا يليق بك وأنت راكب محترف أن تكون واقفا بداخل الموقف، في حين أن السيارات قد جاءت بالخارج واجتمع عليها الركاب فملئوها، ثم استدار السائق راجعا، وأنت مازلت تنظر إلى الساعة كل قليل ولا تدري شيئا عما يحدث.
حجز الميكروباص يا أخانا يبدأ قبل الموقف بمحطة كاملة أحيانا، اسحب نفسك مع عدد من الركاب، واسبق إلى مسافة طويلة، وحين يراكم السائق جماعة سيفرح ويقف، لأنه لا يريد دخول الموقف حيث يدفع "معلومًا" لأرباب السوابق والبلطجية يطلقون عليه فيما بينهم "كارتة"، وسبب التسمية - والله أعلم - هو أن من لا يدفع يتم "كَرتُهُ" على المسافة الفاصلة بين الرأس والظهر، والتي يطلق عليها اصطلاحا: القفا؛ حتى يكون عبرة لأمثاله من المارقين.
أنت الآن واقف أمام الباب الجرار المقدس مع جموع الواقفين، انتبه فالتحدي صعب، ورجوعك مهزوم الخاطر مكسور الوجدان غير لائق بالمرة فالسيارة بها أربع عشرة كرسيا، لو فاز بها أربع عشرة راكبا دونك، فعليك معاقبة نفسك بالذهاب إلى حيث تريد سيرا مهما تكن المسافة، فلا معنى لأن يكون كل هذا العدد
أفضل منك إلا أنك مواطن غير صميم لا تستحق العيش في هذا البلد، ابحث لك من هذه اللحظة على من يهربك إلى إيطاليا أو إسبانيا، حيث تنقصهم القوة والمتانة، ويركبون هناك دون تدافع.
قبل أن تصعد اعلم جيدا أن لكل موقع داخل السيارة عيوب ستعاني منها طوال الطريق، الكرسيين الأماميين مثلا، أكثر عرضة للخطر، فضلا عن أن الداخلي منهما ضيق ومرتفع،
ويخبط السائق كل قليل ساق الجالس بجواره حين يريد أن يمسك بالفتيس حتى يغير السرعة.
الكراسي التالية، عيبها كالتالي: إذا أراد الشخص المزنوق بجوار الشباك من الداخل النزول، فإن الطريقة المثلى هي أن ينحرف الشخص الجالس على الطرف من الجهة الأخرى ويدلدل رجليه للخارج، بينما يستدير الأوسط بجسده ناحية الخارج، ويسحب نفسه داخلا وراء الشخص النازل الذي يكون قد قام بالفعل، هذه الحركة ستتسبب في أن يرفع رجليه لضيق المكان فيخبط بوز حذائه المتسخ في مؤخرة الجالس على الطرف، ثم يرجع بحركة لاإرادية فيخبط كتفه في مؤخرة الشخص النازل الذي سيزعق فيه السائق:
- ما تخلص يا أستاذ.
النصيحة الواجبة هنا: لا تركب بجوار الشباك، ولا في المنتصف، ولا على الحرف إلا إذا كنت ترتدي بنطلونا غامقا مقاوما لأبواز الأحذية المتسخة!
القلاب عيوبه معروفة، أبرزها: "ماتريحش أوي يا أستاذ".
أما الكنبة الأخيرة، فيسمونها مؤخرة السيارة (باستعمال اللفظ السوقي بدلا من كلمة المؤخرة المهذبة نوعا)، لها عيبان بارزان
الأول: الشخص الرابع الذي يدفعه التباع بينكم رغم أن مصممي السيارة أقسموا بأيمانهم على أنه لا يتسع إلا لثلاثة فقط،
أما العيب الثاني: أن كل المطبات التي تمر عليها السيارة تشعر بها في جميع أنحاء جسدك، وإذا جاء مطب عال أخذه السائق على حين غرة، تجد نفسك أنت وزملاءك في الكرسي قد ارتفعتم في الهواء، واصطدمت رءوسكم بالسقف، ثم هويتم مرة أخرى كيفما اتفق،
ليبدأ الزعيق: "إيه يا اسطى هو انت محمّل اشولة بطاطس".. "بالراحة يا عم عشان معانا واحدة حامل".
المكان الأفضل على الإطلاق الذي لن تستطيع الوصول إليه غالبا، هو الكرسي الداخلي قبل الكنبة الأخيرة، واسع ومرتفع، وبجواره شباك مفتوح، أمامه شباك مفتوح، اجلس واسترح، تستطيع أن تنام قليلا بشرط أن تخبر المجاور لك بمكان نزولك حتى يوقظك.
في آداب التعامل مع السائق والتبّاع والألفاظ المناسبة لمخاطبتهما والنزول في المكان المناسب:
كن نبيها وأنت تشير إلى السائق، اجعل جسمك في منتصف طريق السيارة تماما حتى يضطر إلى التوقف، تخلَّ عن "تناكتك" بدءا من هذه اللحظة حتى تصل إلى مكانك المختار بسلامة الله، اصطنع المسكنة وأنت تشير، كأنك ستبيت في الشارع إن لم يتكرم عليك ويقف.
حين يقف لا تبادره بالمكان الذي ترغب أنت فيه، بل اسأله بكل ما يمكنك من تهذيب:
- حضرتك رايح فين بإذن الله يا هندسة؟
لا تبتئس إذا تجاهلك ولم يرد عليك، كرر سؤالك أكثر من مرة حتى يرد، ولكن بطريقة غير مملة؛ لأنه قادر لو أصابته خنقة منك أن يقول لتابعه الأمين:
- اقفل الباب يا بني.
ثم يواصل، موجها كلامه لجموع الركاب:
- العربية مش طالعة يا أفندية.
وقتها ستواجه ثورة الجماهير التي ستتهمك بـ"عكننة" مزاج السائق مما تسبب في تراجعه عن قرار توصيلهم.
احترام السائق من احترام المرء لآدميته، وكل هذه "الألاطة" التي تنتاب السائقين، لها تبرير فني واضح جدا، فما الحياة إلا بر وبحر وجو، سائق وسيلة المواصلات الجوية (الطائرات) هو الكابتن أو الطيار، وهو في أعلى السبع طبقات الاجتماعية، قبل الأستك مباشرة، له صلاحيات ومميزات ومكانة كما لو كان هو الذي يقود البلاد إلى المستقبل، يجاوره في نفس الطبقة تقريبا قائد وسيلة المواصلات البحرية، يكفي أنه اسمه "قبطان"، وهو اسم له تاريخ طويل في أفلام الرسوم المتحركة على الأقل، فلماذا إذن لا يحظى قائد وسيلة النقل البرية بنفس تقدير زميليه؟ ولماذا يضعه المجتمع في الطبقة المقابلة من الناحية الأخرى الملامسة للأرض؟
قم للسائق وفه التبجيلا.. كاد السائق أن يكون شيئا ذا أهمية في المجتمع لكن الظروف السيئة لم تحالفه.
إذا أردت صنع علاقة طيبة معه منذ اللحظة الأولى فتجنب كلمة: يا أسطى، ناده كما يحب،
قل: يا برنس، يا نجم، يا ذوق، يا غالي، يا ريس، يا زعيم، يا حبيبنا، يا هندزة، يا باشمهندز، (لاحظ إبدال السين زايا فكلاهما من حروف الصفير).
لا تقف أبدا مع راكب ضده في أي حوار، حتى لو كان حول الطقس ودرجة الحرارة، فأنت قد وضعت روحك يلعب بين أصابعه يلعب بها كيف يشاء، وإذا كنت حريصا على الوصول محافظًا على ما تبقى لك من آدمية لم تتنتهك، فلا تقل له أبدا:
- وطّي الكاسيت شوية.
ولا:
- غيّر الشريط.
أما عن "التبّاع" فهو غالبا ساخط على الحياة، أوقعه حظه العاثر في مهنة جمع الأجرة، والإلحاح على الزبائن من أجل الركوب في غير أوقات الذروة، لم يتعلم صنعة أخرى تنفعه فامتهن هذه المهنة التي لا تحتاج إلى أي مهارات، سوى حنجرة خشبية قادرة على إصدار أصوات لا قبل لباقي الآدميين بها، سيحاول هذا الكائن الميكروباصي استفزازك بشتى الطرق الممكنة، بزيادة الأجرة، وبـ" ادخل رابع ورا يا أستاذ"، وبالشخط فيك بمجرد أن تُخرج حتى ولو خمسة جنيهات صحيحة، وبنهرك وإعطائك درسا في الأخلاق إذا أردت أن تستبدل الجنيه الممزق الذي خرج من الخدمة منذ فترة، والذي دسه لك وسط الباقي حتى لا تراه.
حافظ على هدوئك، لأنك لن تأخذ معه حقا ولا باطلا، ولأنه في آخر اليوم سيجلس مع زملائه تباعي السيارات الأخرى، ليسرد كل منهم أمجاده في سرقة جزء من الإيراد، وعدد الأفندية المحترمين الذين مد يده عليهم أو شتمهم أو أضحك باقي الركاب عليهم على الأقل.
لا بد أن تشعره بقوتك منذ اللحظة الأولى، كشر تماما، حاول ألا تتكلم معه من الأساس، إذا خاطبك تجاهله، ولا ترد إلا في المرة الثانية أو الثالثة، لا تناده إلا بـ: "ياحبيبي"، بما فيها من استهانة واضحة، بعد كل هذه احرص على أن تخبره بمكان نزولك قبلها بمسافة طويلة، والأفضل أن تتعامل مع السائق مباشرة، لأنه لو عجز عن التصرف معك طوال الطريق، سينتظر لحظة نزولك حتى ينتقم منك، وينزلك في مكان بعيد عن الذي تريده.
في حمد الله والثناء عليه بعد الوصول بالسلامة:
وصلت؟ لا تفرح كثيرا يا أخي، فهذه ليست المرة الأخيرة، أطال الله بقاءك، ستعيش عمرا مديدا مليئا بالميكروباصات، ستقابل سائقين وتباعين وركابا بعدد أيام شقائك، ستهرول وتزاحم وتقفز وتساوم في الأجرة من أجل توفير ربع الجنيه الذي يريدون سرقته منك، ستتضايق حين يخبطك راكب شقيق بكوعه في وجهك دون أن يقصد، وستنفعل حين يدوس راكب آخر بحذائه على حذائك الذي لمّعته حالا، لكن حين يحدث موقف مضحك في السيارة ستشارك الجميع الضحك من قلبك، وحين يستوقف أمين شرطة السائق ليأخذ منه عشرة جنيهات ستتعاطف معه، وتدعو له وأنت نازل في النهاية: ربنا يستر طريقك، وستفرح جدا حين تجد ميكروباصا واقفا في الموقف ليس به غيرك، ستتنقل بين الكراسي حتى يأتي راكب آخر يشاركك الترقب وانتظار أن تكتمل السيارة حتى تتوكلون على الله إلى مصالحكم.
ما الحياة - يا أخي - إلا ميكروباص كبير.